أزمنة ملتبسة

أزمنة ملتبسة

2021 إحسان ترجمان رسم لمياء جريج

إنه شعوري اليوم بالقلق وعدم اليقين حيال منطقتنا، ما ولّد لديّ الرغبة بالنظر إلى الخلف، إلى نقطة تحولٍ في تاريخنا، إلى نقطة انقطاع، إلى لحظةٍ من التفكك والخلق المتزامنين.

تشرذُم العراق وسوريا والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأخير للبنان، والاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية، شكَّل كل ذلك تدفقاً مستمراً من الصراعات التي فاقمت ;من حالات التطرف الديني، والعنف، وحتى التطرف الذي نشاهده في الصور هل ستنجو سوريا والعراق من التقسيم؟ وفي أي ظروف يمكن تحقيق ذلك؟ هل سيتّحد الشعب اللبناني يوماً ما حول رواية مشتركة لبناء وطن؟ هل ستكون للفلسطينيين يوماً دولة حرة؟ ولأي درجة كان ما وصلنا إليه اليوم نتيجة الانقسامات المحلية الحالية، وما مدى تحريض القوى الخارجية والإقليمية والدولية على خلق هذا الوضع؟

يتضمن المشروع المتعدد المستويات " أزمنة ملتبسة " بحوثاً وكتاباتٍ وإنتاجات لمجموعة من الأعمال (رسومات وتراكيب متعددة الوسائط وأفلام) تغطي الفترة ما بين نهاية الإمبراطورية العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي والإنجليزي في لبنان وسوريا وفلسطين (1914-1920). أدّت اتفاقية سايكس بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، وكذلك الحرب العالمية الأولى والمجاعة في جبل لبنان التي تسببت في مقتل مئات الآلاف من الناس، إلى تغييراتٍ جغرافية وسياسية واجتماعية لهذه المنطقة، وكان لها عواقب وخيمة لا تزال تؤثر على حياتنا حتى اليوم.

يدعونا هذا المشروع إلى التفكير بالسيرورة التاريخية، والمفاهيم الزمنية التي ندرك من خلالها الماضي والحاضر والمستقبل: وهي الأزمنة الملتبسة) التي تفتقد إلى اليقين . لطالما ارتكز عملي على مفاهيم الزمن اللاخطيّ وإعادة التركيب والتاريخ المجزأ والسرديات، ، حيث تعمل الاقترانات البصرية وإعادة تمثيل القصص عبر حدود حقبة معينة، وتربط بين مراحل زمنية مختلفة.

لهذا السبب أثارت اهتمامي قصص مختلفة عن هذه الفترة والتي يتم روايتها من وجهات نظر ذاتية. أودّ في مشروعي أن أعطي صوتاً لهذه التوترات ومشاعر القلق ولتوقعات الناس في ذلك الوقت. ماذا كانت آمالهم في المستقبل؟ كيف استطاعوا النجاة؟ كيف انعكست القضايا السياسية في حياتهم اليومية؟ على ماذا تمحورت وعود الديمقراطية عندئذٍ؟

جمعَ البحث المكثف الذي أجريته على مدار أربع سنوات إلى جانب الباحثين المساعدين كارين مراد ويلديز يلماز، وثائق من منظور تاريخي، واجتماعي، وأدبي، ومرئي. وهو يشمل اليوميات والمذكرات والروايات الخيالية والدراسات الاجتماعية والصور والخرائط والمراسلات الرسمية والأحكام القضائية، والتقارير، والدوريات، والصحف. تطلّب مني هذا الأرشيف المتنامي ذو الثقل التاريخي العمل ذهابًا وإيابًا مع المواد؛ أي أحيانًا يُلهمني مباشرة لرسم لوحة وأحيانًا أخرى آخذ أشهراً في محاولة فهمه. بناءً على هذا البحث، يجمع ُ تجهيز المتعدد الوسائط " خريطة التحول " عناصر مختلفة (صور ونصوص ومنحوتات) بهدف إعادة اختراع مفاهيم النسيج التاريخي والزمني.

فيصل على السفينة ، رسم لمياء جريج ، 2021

جمعَ البحث المكثف الذي أجريته على مدار أربع سنوات إلى جانب الباحثين المساعدين كارين مراد ويلديز يلماز، وثائق من منظور تاريخي، واجتماعي، وأدبي، ومرئي. وهو يشمل اليوميات والمذكرات والروايات الخيالية والدراسات الاجتماعية والصور والخرائط والمراسلات الرسمية والأحكام القضائية، والتقارير، والدوريات، والصحف. تطلّب مني هذا الأرشيف المتنامي ذو الثقل التاريخي العمل ذهابًا وإيابًا مع المواد؛ أي أحيانًا يُلهمني مباشرة لرسم لوحة وأحيانًا أخرى آخذ أشهراً في محاولة فهمه. بناءً على هذا البحث، يجمع ُ تجهيز المتعدد الوسائط " خريطة التحول " عناصر مختلفة (صور ونصوص ومنحوتات) بهدف إعادة اختراع مفاهيم النسيج التاريخي والزمني.

شاركت شعوب لبنان وسوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني في معارك الحرب العالمية الأولى ومات الكثيرون منهم سواءً في الحرب أو بسبب المجاعة الكبرى التي أدّت بحسب روايات مختلفة إلى مصرع ما يقارب ثلث سكان جبل لبنان. لعبت عدة عوامل دورًا في المجاعة، بما في ذلك غزو الجراد الذي دمر الحقول الزراعية، فضلاً عن المضاربين المحليين الذين حققوا أرباحًا من خلال تخزين الحبوب، والحرب بين الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين من جهة، والعثمانيين من جهة ثانية. دفعت الحرب كلا الطرفين إلى محاولة إخضاع السكان عن طريق فرض حصار غذائي كاستراتيجية سياسية. كان لحجم هذه المجاعة، التي نادراً ما يتم التعبير عنها فنياً على الرغم من أنها ساهمت بتشكيل تاريخ لبنان بقدر ما ساهمت الاضطرابات وعواقب الحرب العالمية الأولى، بُعدًا كارثيًا وغيّرت المجتمع في ذلك الوقت، بما في ذلك دور المرأة من خلال تمكينها لفترة قصيرة من الزمن.

بينما يشهد لبنان اليوم أكبر انهيار اجتماعي واقتصادي ومالي منذ الحرب العالمية الأولى، تتبادر إلى الذهن صور وقصص تُذكِّر بمجاعة عام 1916 في منطقتنا وتتداخل مع الصور الحالية: التضخم والمضاربة على الغذاء والوقود وتسييس توزيع الإمدادات، والفساد، فضلاً عن عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة في إيجاد حلول قابلة للتطبيق. كلُّ ذلك أدى إلى أن نصف السكان اليوم تحت خط الفقر، أي على حافة المجاعة. أتساءل هنا: هل كل المجاعات في التاريخ كانت من صنع الإنسان؟

في عام 1914، عانت المنطقة من سنواتٍ من الجفاف خلال فترة التجنيد الإلزامي. فقد فُرِضَتْ الخدمة العسكرية الإلزامية على العديد من الفلاحين الذين اضطروا للقتال في خنادق الحرب، وبالتالي لم يتمكنوا من حرث حقولهم. بحلول تشرين الثاني عام 1914، فُقِدَ الدقيق والقمح من السوق. وفي عام 1915، كان جمال باشا يجمع الحبوب بالقوة من المزارعين من أجل تسليم المحاصيل للحكومة والجيش. ثم هجم الجراد في العام نفسه، التهم ودمر بقية المحاصيل. لطالما استُخدمت عمليات الحصار كأداة سياسية للضغط على السكان وتحريضهم على التمرد ضد السلطات القائمة، لكن هذه الأداة لم تكن يوماً فعّالة.

إن تأثير وتدخُّل القوى الدولية في المنطقة في ذلك الحين يشبه ما نعيشه اليوم. إنها ذات الإستراتيجية السياسية والتنافسية في تحديد نوعية الإمدادات الغذائية وموعد توزيعها إلى جانب المساعدات المالية لتخفيف المصاعب على السكان. فالمضاربون المعاصرون في لبنان يجنون أرباحاً طائلة من سعر الوقود وسعر صرف الدولار، وهم يذكروننا بالعائلات المحلية الثرية التي استفادت خلال الحرب العالمية الأولى من اكتناز كميات القمح الموزعة في السوق والسيطرة عليها. وهكذا ارتفعت الأسعار في ذلك الحين إلى الحد الذي لم يعد باستطاعة المزارعين المحليين تحمل شراء القمح فعانت المنطقة من الجوع الهائل.

تُرى، هل كانت حدود لبنان هي نفسها اليوم لو لم تحدث المجاعة؟لا يسعني إلا أن أفكر في وضعنا الحالي مع استمرار انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، وإفلاس الدولة، (إفلاس مصرفها المركزي)، وانهيار النظام المصرفي، مما أدى إلى مضاربات ضخمة، وسوق سوداء غير منضبطة، وتزايد الفساد، وارتفاع مستوى الفقر بشكلٍ غير مسبوق. لا يسع المرء إلا أن يتخيل التحولات العميقة التي ستحدث في مجتمعنا نتيجةً لأزمة اليوم.

تقرير فرنسي من جريدة بتاريخ 3 أكتوبر 1919 بعنوان "الملك فيصل والمزاعم اليهودية" المصدر: باشكانليك عثمانلي أرشيفي

المسيحيون والمسلمون، الذين خشوا اضطهاد العثمانيين، عملوا سويةً للتخلص منهم. بين عامي 1915-1916، أُدين ثلاثةٌ وثلاثون زعيماً من أصولٍ مسيحية وإسلامية بالخيانة عظمى وشُنقوا على أعين الملأ في بيروت ودمشق لتعاونهم مع الحلفاء. ظهرت الهوية العربية كقوة سياسية وثقافية ضد العثمانيين. لكن لاحقًا ازداد الانقسام بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، فقد أراد غالبية المسلمين أن يكونوا جزءًا من سوريا الكبرى تحت حكم الملك فيصل، في حين أراد غالبية المسيحيين، خاصة الموارنة، دولةً لبنانية مستقلة تحت حماية فرنسا. غادر العثمانيون بيروت في تشرين الأول عام 1917.

زعمَ الحلفاء أنهم يحمون المنطقة حتى يصبح قادتها قادرين على حكمها بأنفسهم، وكان البريطانيون قد وعدوا فيصل بتسليمه رئاسة أول دولة عربية مستقلة، والتي كان من المقرر أن تشمل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين. لكنّ البريطانيين خانوا وعدهم لفيصل، وأبرموا اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين التي تقضي بتقسيم المنطقة. وضعوا بموجب هذه الاتفاقية لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني. ثم حارب الفرنسيون فيصل، فانسحب وأصبح فيما بعد أول ملك للعراق.

ماذا كان سيحدث لو حكم الملك فيصل كل تلك المنطقة؟ ماذا لو لم يخنه الإنجليز، ولم يهزمه الفرنسيون ولم يحاربه المسيحيون الموارنة في لبنان؟ هل كان لمملكته العربية الموحدة والمستقلة وجودٌ اليوم؟ هل كان فيصل اليوم شخصية صنعها البريطانيون وبعض العرب كأداة لتوحيد العرب في نضالهم ضد العثمانيين؟

ضمّت الإمبراطورية العثمانية مجتمعات عرقية ودينية متنوعة، وعلى الرغم من عدم معاملتهم على قدم المساواة، إلا أن السلطة المركزية وفّرت سلطة متماسكة. هل كان فيصل سيحكم من خلال سلطة مركزية في دمشق؟ أم أنه كان سيسيطر على إقطاعيات صغيرة مقسمة فحسب؟ كيف كان سيعامل هذه الأقليات الدينية والعرقية؟ هل كان سيحكم بشكل عادل وديمقراطي لو كُتبَ له أن يترأس أول مملكة عربية مستقلة؟

ما يذهلني هو هذه اللحظات ذات الاحتمالات العظيمة والتي تُمثّل نقاط تحول في تاريخنا، حيث تتلاقى العديد من اللاعبين والعوامل وأنتجوا تحولًا جذريًا. حيث كان من الممكن اتّباع اتجاهات أخرى والحصول على نتائج المختلفة. أتساءل ما إذا كان من الممكن أن تبقى هذه المنطقة غير مجزأة وتحت أية ظروف.

في إحدى محادثاتي مع إيتيل عدنان التي تم تصويرها بين عامي 2013-2015، تحدثنا عن طفولتنا وعن والديّْ كلِّ منا ونهاية الإمبراطورية العثمانية. سألتها عما كان سيحدث لو نجح الملك فيصل في حكم مملكة عربية مستقلة وإذا كانت تعتقد أن تلك المملكة كانت ستستمر. أجابتني: "ربما نجح فيصل في تأسيسها، ولكنه لم يكن لينجح في حكمها. ففي النهاية، حتى لبنان نجح، حتى العراق موجود، وحتى سوريا الصغرى موجودة. لذلك لو كُتبَ لهذه الأمة أن تولد، لكانت كياناً مهزوزاً، ولربّما عانت من نفس المشاكل التي يعاني منها لبنان اليوم. كيف يمكن إدارة مثل هذا التنوع؟ تمكنت الإمبراطورية العثمانية من إدارتها بشكل جيد من القسطنطينية، وقبلت هذا التنوع. لكنّ المشاعر القومية أطلقت العنان للخيال. "

أثناء محادثة مع إيتيل في عام 2011، أطلعتها على بعض الصور التي التقطُّها في الصيف على جزيرة يونانية. أُعجبتْ إيتيل بالصور ثم طلبت إليّ تصوير مقطع فيديو يُحاكي قصيدتها الأولى التي عنوانها: "الشمس والبحر" المكتوبة بالفرنسية في عام 1949. بعد عام، عدت إلى اليونان وصوّرتُ البحر والسماء والشمس والجروف، لكنني رفضت النظر إلى الصور وواصلت تأجيل العمل على هذا المشروع.

لم يُنجز الفيديو قبل عام 2021. يبدأ الفيديو بمحادثة مع إيتيل، استحضرتُ خلالها اليونان باعتباره "متاهة"، بمعنى أن هذا البلد لديه الكثير ليقدمه بحيث يمكن للمرء أن يضيع فيه بسهولة. أُخبِر إيتيل بالفيديو أنني أتمنى أن أفهم اليونان وأقول شيئًا عنه من خلال شعرها. تحدثتُ عن افتتاني بقدرة هذه الشاعرة على التعبير عن جمال المناظر الطبيعية بطريقة لم تتأذَّ تقريبًا بوضع العالم الحالي. لقد شعرت بصعوبة كبيرة في ابتكار عمل يتحدث عن جمال السماء والبحر بنفس البساطة التي كتبت فيها الشاعرة عن الطبيعة.

في الحقيقة ، كيف كان بوسعي إنتاج قصة عن جمال وصفاء جنة يونانية، بينما الحياة اليومية تسير بشكل سيء للغاية في بلدي لبنان، وكذلك في سوريا وفلسطين؟ وجدنا أنا وإيتيل تشابهاً بين الأزمة الحالية وأسبابها وتلك التي حدثت في عام 1920. دفعتني هذه التساؤلات ونقاط التشابه إلى مزيد من البحث في تاريخ منطقتنا.

تحت قيادة الجنرال اللنبي، دخل البريطانيون القدس في شتاء عام 1917. رحب العرب الذين أرادوا تحرير أنفسهم من الحكم العثماني بالبريطانيين، لكن سرعان ما أسِفَ الكثيرون منهم لحماسهم تجاه الانتداب البريطاني عندما أدركوا نية البريطانيين الحقيقية وهي السماح بإنشاء دولة صهيونية، وتعزيز الانقسامات بين المسلمين والمسيحيين. تصاعدت التوترات، مما دفع العرب سريعاً إلى تنظيم ثورة واسعة النطاق.

استمر النضال والمفاوضات السياسية حتى اللحظة الأخيرة، وهكذا، لم يكن مصير لبنان وسوريا وفلسطين محدداً بشكل مسبق. من الممكن أن تكون المجاعة قد ساهمت في الدعوة إلى رسم حدود أوسع لجبل لبنان عندما تم إعلان الدولة في عام 1920 و وضعها تحت الانتداب الفرنسي.

يمكننا أن نلتمس بسهولة من خلال سياق هذه الفترة الأسس الأولى للعديد من الانقسامات الطائفية والسياسية بين المجتمعات المختلفة. في الواقع، شكلت هذه الانقسامات لبنة بناء مجتمعنا الحالي التي أدت بدورها إلى انقسام سياسي حاد في لحظات محددة من تاريخ لبنان، مثل عام 1958، ولاحقًا خلال الحروب اللبنانية التي بدأت عام 1975 وحتى الآن.

طائرات ، رسم لمياء جريج

مصادر إلهامي متنوعة، لكن العمل الذي أسرني أكثر من غيره هو يوميات إحسان ترجمان، التي نشرها عالم الاجتماع الفلسطيني سليم تماري في كتاب عام الجراد، والتي أعمل حاليًا على تحويليها الى فيلم. تم الكشف مؤخرًا عن هذه المذكرات وهي لجندي فلسطيني من القدس، التحق بالجيش العثماني في أوائل العشرينات من عمره خلال الحرب العالمية الأولى. كان لهذه المُذكّرات تأثير عاطفي قوي عليّ، فقد كُتبت بين عامي 1915 و1916، وهي شهادة نادرة لشاب عن تلك الفترة، تصور مُثُله وآماله، حيث عبّر من خلالها عن رغباته في زمن الصراع وعدم اليقين.

يصف إحسان في مذكراته شغفه وقلقه فهو يحب بشكل أفلاطوني امرأة يأمل في الزواج منها لكنه لا يعرف ما إذا كان والداها سيوافقان على زواجهما. يطرح الجندي الشاب كذلك تساؤلات حول مستقبل فلسطين، ويتساءل عن مفاهيم الانتماء والوطنية والهوية، خاصة فيما يتعلق بالهوية العربية والحقوق القانونية في ظل الحكم العثماني الذي ينتقده بشدة.يكتب إحسان:

أذهب إلى الجول ولماذا أذهب؟ أذهب لأدافع عن وطني. أنا لست عثمانيًا إلا بالاسم فقط لأن وطني العالم. أأذهب حتى أموت جوعًا وعطشًا أو أن أتوه في الصحراء وأموت هناك؟ والله لو خيرت وقيل لي لو ذهبت يا إحسان إلى هناك لأخذنا مصر. لو قيل لي هذا وتأكدت من ذلك وعلمت بأنني لا أتعب مطلقًا لما ذهبت. هل تريد الدولة الجنكيزية الوحشية البربريّة أن تذهب وتملك مصر على ظهورنا وتخربها حتى تصير الأهالي والعالم أجمع يطعن من خطة خطوة واحدة هناك في سبيل تخليص مصر. أنا لا اريد أن أذهب. ولماذا أذهب؟ هل لأنهم يعدونني ويعدون إخواني العرب شركاؤهم في الملك؟ أم هل لأنهم سعوا في الماضي ويسعون في الحاضر لترقية الأمة العربيّة؟ وماذا رأينا منهم؟ هل أذهب لأنهم قتلونا ماديًا وأدبيًا؟ أذهب إلى هناك وأهرق دمي هدرًا؟ إن حياتي والله لعزيزة. لو كانت الدولة دولة راقية وعاملتنا معاملة حسنة فأنا ومالي وحياتي وكل شيء فدًا للوطن. ولكن ونحن على ما نحن عليه نقطة واحدة من دمي تساوي جميع ما في الدولة التركيّة.

ينتقد إحسان معاملة العثمانيين غير العادلة لليهود والمسيحيين والظروف المروّعة للمرأة. تدل آراؤه التقدمية، حتى بمعايير اليوم، على روح التغيير في ذلك الوقت، والتي أدت لاحقًا إلى إحراز تقدمٍ في مجال حقوق المرأة. تدلّ تساؤلاته ومخاوفه بالإضافة إلى مُثُله، العادية والاستثنائية في آن واحد، على مشاكل مماثلة في عصرنا، وتجعلني أتساءل عن تصوري الخاص لمستقبل منطقتنا.

وثيقة مؤرخة في أيار 1915 موقعة من قبل أوهانيس ، محافظ جبل لبنان ، تفيد بأن سكان جبل لبنان يعانون من مشقة الحصول على الحنطة ، محذرة من أن انقطاع نقل القمح إلى جبل لبنان وسواحل سوريا قد يسبب المجاعة والجوع

بالإضافة إلى غزو الجراد وندرة الخبز والسجائر، يخبرنا إحسان عن الإذلال اليومي الممارَس على السكان الفقراء من قبل النظام العسكري القاسي في زمن الحرب. المطر غزير هذا اليوم ونحن باحتياج إليه. انتشر الجراد في جميع هذه البلاد. وقدم قبل 7 أيام من جهة الشرق وغطى السماء. وقد أخذ في ذات اليوم من الوقت أكثر من ساعتين وهو يمر. لطف الله بنا: حرب وغلاء وجراد وأوبئة منتشرة بالبلاد، فمسكين أنت أيها الفقير! اللّهم ألطف بنا.

بينما أعتمدُ على مخطوطة اليوميات كوثيقة، وربما على استخدام أرشيفات بصرية من مصادر مختلفة، أعتزم من خلال فيلمي إعطاء الحياة للمذكّرات من خلال تجسيد ممثلين للشخصيات الرئيسية. استخدم التعليق الصوتي عندما نرى إحسان في غرفة نومه الحميميّة أو عندما نتّبعه خلال جولاته اليومية في القدس أو عندما يجري الحوارات عند لقائه بالجنود الأخرين والأصدقاء والعائلة. قد يؤدي الممثلون في الوقت نفسه المشاهد التي تجري أحداثها في عام 1915 ثم تلك التي تجري في عصرنا الحالي مما يتيح لنا اللعب على مفهوم المفارقة التاريخية. وهكذا نراهم يتأملون مستقبلهم، ثم يتشاركون مخاوف وآمال مماثلة مع شخصيات اليوم.

يكتب إحسان في صفحات مذكراته الأولى: ولكن ماذا سيكون نصيب فلسطين يا ترى؟ الجواب هيّن على هذا السؤال. إما الاستقلال وإما الالتحاق بمصر. والأمر الأخير أقرب إلينا من الاستقلال لأسباب كونها أنه لا تقدم دولة غير الإنكليز على أخذ هذه البلاد. وإنكلترا لا تقدم على إعطاء فلسطين استقلالًا تامًا وجعلها حكومة مستقلة بل إن ما ستعمله هو ضمها إلى مصر وجعلها حكومة واحدة تحت حكم خديوي مصر.

قبل نهاية مذكراته ببضع صفحات، نعلم أن ضابطًا في الجيش قد أعلن لإحسان عن حبه له، وحتى أنه تبعه في إحدى المرات إلى منزله. شعر إحسان بالحرج من الموقف ولم يعرف كيف يتعامل معه. ثم نعلم في حاشية الكتاب أن إحسان ترجمان، الذي كان يبلغ من العمر 23 عامًا فقط، اغتيل على يد جندي قبل نهاية الحرب عام 1917. هل كانت هذه جريمة قتل بدافع الحب ارتكبها الجندي الذي أُغرم به؟ أم كان سبب الجريمة شخصي، كَعِراك مثلاً بسبب المال نشب بين إحسان وقاتله؟ أم أنه قُتل خلال إحدى المعارك حامية الوطيس على الجبهة؟ لا يزال الكثير من الغموض يحيط بهذه الحكاية حتى اليوم.

هكذا، لن يعرف إحسان أبداً نتيجة الحرب، ولن يرى اللنبي يدخل مسقط رأسه القدس، ولن يعرف بنهاية الدولة العثمانية ولا مصير فلسطين ولن يعلم بالصراعات التي ستنشب فيما بعد في هذه المنطقة. لكننا اليوم نعلم كل هذا، وهذه المعرفة ستعطينا منظورًا تاريخيًا يفتح الباب لكثير من التساؤلات والتأملات.

هذه اليوميات هي وثيقة استثنائية لعصرها، لكنها معاصرة بشكل غريب. يمكن للمرء أن يقارنها مع الوقت الحاضر في منطقتنا. في الواقع، الكثير المصاعب وحالات عدم اليقين التي كانت سائدة في تلك الحقبة: الانهيار الاقتصادي، والاضطرابات السياسية، والقلق والخوف اللذين شعر بهما السكان في ذلك الوقت، تصف حالنا اليوم. يمكن للاضطرابات الأخيرة والحروب والأحداث المأساوية أن تعيد تعريف منطقتنا مرة أخرى، فلا يزال مستقبلها غامضاً.


لمياء جريج (1972، بيروت، لبنان) فنانة تشكيلية لبنانية ومخرج أفلام، تلقت بكالوريوس الفنون الجميلة (رسم، صناعة أفلام)، للتصميم في بروفيدنس، عام 1995. انتشرت أعمالها على نطاق واسع منذو نهايات 1990. هي مؤسس ل مركز بيروت للفن مع ساندرا داغر. نظمت ساندرا ولمياء «المتحف كمحور» التابع لمركز بيروت للفن في مدينة نيويورك في المتحف الجديد عام 2011.

Previous
Previous

من KONSTYANTYNIVKA إلى CONSTANTINOPLE

Next
Next

يومياتٌ حجرية