من KONSTYANTYNIVKA إلى CONSTANTINOPLE

من KONSTYANTYNIVKA إلى CONSTANTINOPLE

Iaroslav Volovod

جدتي مع إخوتها وأبناء عمومتها. أخذت الصورة في أوكرانيا في الستينيات

ولدتُ ونشأتُ في الدائرة القطبية الشمالية الروسية. لِذا، كنتُ سأجد حتماً تقاليد عائلتنا اليونانية غريبةً بعض الشيء. "ألسنا يونانيين في النهاية؟" اعتادت جدتي أن تهتف لأمي أحيانًا بهذه العبارة وتبتسم. "إن ساءت الأمور، سننتقل إلى اليونان!" كرر آخرون في الأسرة بمن فيهم العمّات والأعمام الأحفاد وأطفالهم هذه العبارة الثابتة فأضحت تقريبًا فولكلورية. عبّرت هذه الجملة عن أملٍ مزيف ولم يأخذها أحد في ذلك الحين على محمل الجد.

لم يكن ذلك ذنبهم أبداً، فقد أعاد المشروع العملاق للحداثة السوفيتية تشكيل الناس والمجتمعات، مما أدى إلى التماثل بين السكان وفقدان ذاكرتهم الثقافية، ذلك أن هذا المشروع اعتمد على البنى التحتية لا على التراث. أتاحت مبادرات التوظيف في الاتحاد السوفييتي تنقلًا غير مسبوق عبر الامتداد الأوراسي الشاسع. لذا، في السبعينيات استلمت جدتي وظيفة في ميناء مورمانسك البحري الدولي، في آخر مدينة تأسست في الإمبراطورية الروسية وهي تقع شمال الدائرة القطبية الشمالية وتعدّ أكبر مدينة في العالم. وهكذا انتهى بنا الأمر جميعًا تحت الشفق القطبي.

لكن جدتي وُلِدت في مكان آخر، على بعد حوالي 3000 كيلومتر جنوبًا في كوستيانتنيفكا، وهي مدينة صناعية في جنوب شرق أوكرانيا. هذه المنطقة المعروفة أيضًا باسم دونباس، كانت مأهولة منذ فترة طويلة بشعوب مختلفة معظمهم من السلاف الشرقيين (الأوكرانيين والروس) وأقلية يونانية تعود أصولها تاريخياً إلى شبه جزيرة القرم. ينحدر هؤلاء اليونانيون من سلالة المستعمرين القدامى الذين أتوا من آسيا الصغرى منذ حوالي 2500 عام. كانوا رعايا للإمبراطورية البيزنطية، خانية القرم (الدولة التابعة للإمبراطورية العثمانية) وأخيراً، في القرن الثامن عشر انتهى بهم الأمر تحت الحكم الروسي. في خطوة سياسية ماكرة، أقنعتهم كاثرين العظيمة بالانتقال من شبه جزيرة القرم إلى الحقول البرية أي إلى ما يُعرف اليوم بمنطقة دونباس. كان ذلك جزءًا من مشروعها اليوناني الشهير. خلال الحرب الروسية التركية، قَضَتْ خطتها الجيوسياسية الطموحة بتقسيم الجزء الأوروبي من الإمبراطورية العثمانية بين الإمبراطوريتين الروسية وهابسبورغ وبعد ذلك استعادة اليونان المستقلة ومركزها القسطنطينية، ووضع حفيدها قسطنطين على العرش. نظرًا لأن كل هذا لم يحدث أبدًا، فقد حولت كاثرين العظيمة تركيزها إلى شبه جزيرة القرم، متخيلة إياها على أنها يونان بديلة.

كتاب جليب سوكولوف السوفيتي لعام 1972 بعنوان "الآثار المحيطية والبونطية"

مع نهاية الحرب في عام 1774، اعتُبرت إعادة توطين يونانيي شبه جزيرة القرم جزءاً مهماً من سياسة الدولة. كانت تقوية الحدود الجنوبية للإمبراطورية الروسية وتقويض القوة الاقتصادية لخانية القرم من الأولويات الرئيسية وساهمت في الضم السريع لشبه جزيرة القرم. في عام 1778، بدأت الهجرة الجماعية من شبه جزيرة القرم برحيل 18000 هيليني مع شعوب مسيحية أخرى، ولعب المستوطنون الذين وصلوا حديثًا دورًا أساسيًا في إعادة تأهيل السهول الشاسعة غير المزروعة في جنوب شرق أوكرانيا. أما بالنسبة للخيال الإمبراطوري المهووس في ذلك الوقت، فقد كان هذا يعني أيضًا نقل الحدود الشمالية لليونان على طول الطريق إلى روسيا.تُعدّ اليوم قرى دونباس الناطقة باليونانية والمتمركزة حول مدينة ماريوبول أكبر مركز للهلينية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولكنّ هذا المركز بدأ بالتلاشي. عندما كانت جدتي وإخوتها يعودون من قرية أمهم بالقرب من كوستيانتنيفكا، مسقط رأسهم في أوكرانيا، كان الناس يسألونهم مازحين "كيف الأحوال في اليونان؟". من قبيل الصدفة المضحكة، يبدو اسم كوستيانتنيفكا نفسه وكأنه لقبٌ سلافي على القسطنطينية. هذه المفارقات اللغوية هي أكثر من مجرد نكتة طريفة، فهي تستدعي شبح الإمبريالية الروسية وجميع تخيلاتها السياسية. تاريخياً، كان لدى القيصرية الروسية هوس دائم بالقسطنطينية والإرث البيزنطي، وتوقع الملوك الحاكمون استعادة السلطة على مهد الحضارة المسيحية الأرثوذكسية من خلال بنيات فكرية عملوا عليها بعناية. شكّل تصوّر "موسكو" عن نفسها أنها "روما" الثالثة محور هذا المسعى، الذي تجسّد في القرن السادس عشر عندما ادّعت موسكو بعد سقوط القسطنطينية أنها خليفة الإمبراطورية الرومانية.

لكن، كاترين العظيمة هي من عملت في القرن الثامن عشر على تحديث اللاهوت السياسي الروسي بشكل كبير، الذي ارتكز على حلم استعادة روما الثانية. كانت هذه خطوة ضرورية لإضفاء الشرعية على روسيا كإمبراطورية أوروبية من الدرجة الأولى عن طريق الدليل الهيليني الذي يثبت ارتباطها بجذور الحضارة الأوروبية. في الوقت نفسه، كان هذا سيحقق "المهمة الحضارية" لروسيا في استعادة شبه جزيرة القرم، الموقع الذي اعتنق فيه كييفين روس المسيحية نتيجة معمودية فلاديمير الكبير عام 988. خلال مشروعها اليوناني، خاطت كاثرين العظيمة عناصر من العصور الكلاسيكية إلى الإمبريالية الأرثوذكسية "المسيانية".

وصف عالم الأدب والمؤرخ الروسي أندريه زورين هذه التخيُّلات السياسية ببراعة في كتابه: إطعام النسر ذي الرأسين: الأدب الروسي وأيديولوجيا الدولة في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، والثالث الأول من القرن التاسع عشر. قال: "على عكس ما هو معروف بأن شعلة التنوير نُقلت من اليونان إلى روما، وتسلمتها أوروبا الغربية ثم نقلتها إلى روسيا، يبدو الآن أن روسيا كانت مرتبطة باليونان مباشرة ولم تحتج إلى أي وسطاء."

طبعة عام 1792 تُظهر كاثرين الثانية، إمبراطورة روسيا ، عارية الصدر، ممسكة بصولجان وكرة، وهي تخطو خطوة كبيرة من قطعة أرض على اليمين تحمل اسم "روسي" إلى هلال القمر فوق برج أو مئذنة مكتوب عليها "القسطنطينية" اليسار؛ يوجد أدناه حكام فرنسا، وبروسيا، والسويد، والنمسا، وبولندا، وبريطانيا العظمى، وإسبانيا، والبابا بيوس السادس، الذين يبحثون جميعًا عن لباسها ويدلون بتعليقات

في مثال آخر استعطافي، يستشهد زورين بقصيدة مشؤومة كُتبت في عام 1848 بعنوان: الجغرافيا الروسية للشاعر والدبلوماسي الروسي السلافي فيودور تيوتشيف. جاء فيها:

موسكو ومدينة بطرس ومدينة قسنطينة ... هي العواصم المقدسة للقيصرية الروسية لكن أين تنتهي؟ وأين حدودها؟إلى الشمال، إلى الشرق، إلى الجنوب وباتجاه غروب الشمس!

إنها مفارقة مؤثرة أنه بعد قرن ونصف، وسط عمليات التطهير الستالينية ضد اليونانيين، ظلّت شبه جزيرة القرم تُصوَّر على أنها جنة خلال العصور السوفييتية القديمة. فكّرْ في هذا الوصف لشبه الجزيرة من تأليف أندريه زورين: "عالم البيوت البيضاء المطلة على البحر. الممرات المرصوفة بالحصى بين شجيرات الغار. أزقة أشجار السرو والمزهريات والتماثيل الجصية. الأبواق في المناديل القرمزية في طابور الصباح، والمصطافون الذين يتنزهون في البيجامات البيضاء: كانت هذه اليونان القديمة، جنتنا، على الرغم من تطهيرها من التنوع العرقي المفرط من قبل أبو الشعوب بعد الحرب. لكنها كانت متاحة ومتوفرة خلال الجولات النقابية أو عبر توجيهات من المنظمة الرائدة لمواطني الإمبراطورية. هنا كان بإمكانهم أن يقضوا العطلة بهدوء، لأن أسطول الراية الحمراء في البحر الأسود كان على أهبة الاستعداد في خلجان سيفاستوبول مع البحارة الذين يرتدون الزي الرسمي الأبيض والأزرق والقبعات الذين كانت الفتيات في القرى النائية تتُقنَ إليهم بلا سبب. هنا أصبح من الصعب التمييز بين التفسيرات اليومية والعسكرية لجاذبية القرم بالنسبة للروس".

نحت الحديقة السوفيتية في تاروسا

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح هؤلاء اليونانيون مواطنين في أوكرانيا المستقلة حديثًا. مع فتح الحدود، بدأ البعض منهن بالعودة إلى اليونان، فقد استطاعوا إثبات أصولهم اليونانية رغم أن هذه المهمة لم تكن سهلة، ففي كثير من الأحيان كان على المرء أن يعمل عبر الحدود بين الدول ويتعامل مع الأرشيف التي كان من الصعب أحياناً الوصول إليه.

كلما حاولت استكشاف تاريخ عائلتي، وإعادة إنشاء مسارات الهجرة واستعادة الوثائق الأرشيفية، أدركت أنه لا أحد منا يمكنه التعامل بشكل نهائي مع ماضٍ تم تغريبه. أصبح تحريك جسدي على طول طرق التاريخ المعقدة طريقة لتجسيد وتفعيل هذا التاريخ. في حالتي، كان ذلك يعني التحرك ضمن الثالوث: روسيا وأوكرانيا واليونان، وفي بعض الأحيان تركيا. دُفعتُ إلى الفضاء المادي للتاريخ من خلال أوهام الإمبراطوريات القديمة، وأصبحتُ منخرطةً بشكل متزايد في السياحةٍ كنوع من التعاطف بدلاً من الرغبة بالاستهلاك والتملك.

لقد بدأتُ هذا المقال بشكلٍ غريب، يشبه شعوري الغريب بعض الشيء الناتج عن حكاية عائلة يونانية سمعَ بها في الدائرة القطبية الشمالية. لكني أود أيضًا هنا، أن أعتبر الغرابة نتاجًا للإمبراطوريات. بمعنى أن كلمة "غريب" تعني أن الشيء غريب ببعضٍ من صفاته (تذكر اسم كتاب الأوديسة اليونانية ماريوبول لِ إيفان دجوخا، المتحمس لتاريخ دونباس اليوناني والذي تم نشره في فولوغدا في عام 1993)، بالإضافة إلى معناها الأولى، تعني كلمة "غريب" وضع الشيء خارج المركز. بالتالي، فإن إنتاج الأطراف والأماكن اللامركزية المحيطة هو مهمة أساسية للإمبراطوريات، وتعد شبه جزيرة القرم مثالًا جيدًا على ذلك. فقد عرّفتْها بيزنطة على أنها الطرف الشمالي للعالم الهيليني، وعلى أنها جزء غامض من الإمبراطورية العثمانية عندما كانت جزءًا من خانية القرم. وفي الإمبراطورية الروسية كانت عبارة عن حدود إقليمية بعيدة في الجنوب. إن الحدود على شكل المقاطعات هي السمات التأسيسية لأي إمبراطورية.

كتاب إيفان دجوخا عام 1993 ، ملحمة اليونانية ماريوبول

في القرن العشرين، تم عزل اليونانيين من عرق دونباس وأولئك الذين بقوا في شبه جزيرة القرم عن العالم الهيليني الأكبر بواسطة الستار الحديدي وظلوا تحت أعين المراقبة باعتبارهم الجزء الأقل شهرة من الشتات اليوناني العالمي. إلى جانب العديد من المجموعات العرقية الأخرى، واجه اليونانيون السوفييت اضطهادًا لا يرحم من قبل النظام الستاليني والذي بدأ في عام 1937 بمذابح مفوضية الشعب للشؤون الداخلية وبلغت ذروتها مع عمليات الترحيل الجماعي في الأربعينيات.

إن الاندماج التكافلي المشؤوم للجيش والسياحة الذي ذكره زورين فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم هو أفضل دليل على ذلك. فقد عادت الادعاءات الوحدوية الروسية إلى الظهور في عام 2014 وتجلت في ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا إلى روسيا. بطريقة ما، يمكن تفسير هذا الضم على أنه مقدمة للنهاية الكبرى الحالية للاستعمار الجديد المتمثل بالمشروع الإمبراطوري الذي بدأته كاترين العظيمة.

منذ عام 2014، وقع اليونانيون الأوكرانيون في خضم الحرب الدامية التي استمرت لسنوات في دونباس ويجدون أنفسهم اليوم في بؤرة الغزو الروسي لأوكرانيا. في تطور كارثي للأحداث، أصبحت أوكرانيا مركزًا دلاليًا جديدًا لأوروبا الحالية، لا تختلف كثيرًا عما كانت عليه الدولة اليونانية المستقلة بالنسبة لأوروبا في القرن التاسع عشر، إنها موقع يمكن من خلاله استعادة القيم الأوروبية وتجديدها.


ياروسلاف فولوفود باحث مقيم حاليًا في اسطنبول. حتى وقت قريب كان يدير في متحف كراج للفن المعاصر تاريخ تفاعلات المجتمعات المختلفة في الاتحاد السوفياتي السابق مع المعايير الثقافية والنشاط السياسي وقوانين العاصمة الاستعمارية الروسية. تخرج من الكلية الشرقية وتخصص في اللغتين الهندية والسنسكريتية وحصل على درجة الماجستير في الدراسات التنسيقية من كلية بارد في نيويورك. ظهرت كتاباته على منصات دولية.

Previous
Previous

مقال عن معرض "النافورة الخاملة" لِ فيكي بيركلوس

Next
Next

أزمنة ملتبسة