خطّ هيلاس-سوريا إكسبريس

خطّ هيلاس-سوريا إكسبريس

Arie Amaya-Akkermans

Vangelis Vlahos ، صور بحثية من مشروع The Bridge ، 2015

في ربيع عام 2019، جاء الإعلان الأول لشركة "ممرات بحر إيجة" الخدمية التركية على النحو التالي: ستبدأ خدمات العبّارات في الإثنين من حزيران بين حي تشيم السياحي في مقاطعة إزمير في بحر إيجة في غرب تركيا، ومدينة لافريون الساحلية اليونانية القريبة من أثينا. وعلى الرغم من وجود خدمات العبّارات والقوارب المحلّقة بشكل منتظم بين الجزر اليونانية في دوديكانيز وشمال بحر إيجة والساحل التركي، فضلاً عن العبّارات اليومية بين تشيم وخيوس وأيفاليك وليسبوس، فإن افتتاح خدمة العبّارات اليومية هذه التي ستعمل فقط خلال أشهر الصيف، أعلنت بداية عهدٍ جديد. فمنذ معاهدة لوزان في عام 1923، التي حسمت رسميًا الصراع بين الإمبراطورية العثمانية وقوات الحلفاء الذي بدأ مع نشوب الحرب العالمية الأولى، لم تكن هناك روابط بحرية بين البريّن اليوناني والتركي. يُذكر أن عدة محاولات للتفاوض بشأن إنشاء طريق للركاب بين البلدين ظلّت غير محسومة حتى تم التوصل في النهاية إلى اتفاق في عام 2019.

لم يكن الهدف من إنشاء العبّارة اليومية بين تشيم ولافريون هو توفير وسائل النقل للركاب وسياراتهم فقط، وإنما أيضًا لمركبات نقل البضائع، من أجل تعزيز اقتصاد المنطقة. في يوم الأحد، الثلاثين من حزيران من نفس العام، ومع تأخير لمدة شهر تقريبًا في الجدول الزمني المُزمَع، أبحرت العبّارة الأولى في الساعة الخامسة والنصف مساءً. أُقيم حفل في ميناء تشيم تخلله حفلة موسيقية للفرقة العسكرية العثمانية ورقصات شعبية حالما انطلقت عبّارة شركة "ممرات بحر إيجا" في رحلتها الأولى. كانت السفينة قادرة على حمل 360 راكبا و 500 سيارة و 90 شاحنة. خلال الرحلة التي استغرقت سبع ساعات، كان لدى المسافرين مطاعم ومقاهي وغرف ألعاب للأطفال ومتاجر معفاة من الرسوم الجمركية.

لكن الرحلة التي طال انتظارها سرعان ما اكتنفها الغموض، ففي صيف عام 2019، كان من شبه المستحيل حجز مكان في العبّارة بسبب تواريخ المغادرة غير المتطابقة ولم يكن اسم المركِب معروفاً. وفقاً لمندى السفر عبر الإنترنيت، فإن صور العبّارة على موقع شركة "إيجا للمرات البحرية" قد التُقطت مسبقاً لعبّاراتٍ أخريات: صورة ممر المقصورة، على سبيل المثال هي ذاتها صورة ممر مقصورة العبارة السويدية "ستينا فيجن"، وصورة المتجر كانت مأخوذة في العبّارة القبرصية "السماء الأيونية" التي توقفت عن الخدمة منذ عام 2013. كذلك صورة المطعم التُقطت في المركِب الاسباني "بينتشيجكوا إكبريس". أما صورة قسم الخدمة الذاتية فقد كانت لشركة خطوط الشحن ميرسك الدنماركية، وكانت صورة مؤخرة السفينة للعبّارة الكرواتية "هيكتوروفيتش". وهكذا انتهى سريعاً العمر الافتراضي لمشروع النقل الطّموح المشحون جيوسياسيًا. وسرعان ما اختفى المشروع حتى دون إعلان رسمي واختفى الموقع كذلك. وعلى الرغم من عدم معرفة مدة عمل الموقع، يقال إن الشركة أوقفت من مكانٍ ما جميع العمليات بعد سبعة أسابيع من بدء عملها. هل كان حقاً لشركة "ممرات بحر إيجه" وجودٌ على أرض الواقع؟ أظهرت صورٌ في الصحافة ما بدا وكأنه عبَّارة شحن سوفيتية سابقة معاد استخدامها لأغراض أخرى.

في الواقع، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشكل فيها خط العبّارة مشروعًا جيوسياسيًا طموحًا لربط البر اليوناني بالشرق الأوسط الأوسع. في خريف عام 2019، افتُتح في استنبول في مركز ديبو الثقافي المعرض الجماعي "عندما يكون الحاضر هو التاريخ"، برعاية دافني فيتالي. تناول المعرض الطريقة التي تعامل بها الفنانون مع الروايات التاريخية المعتمدة إلى حد كبير على مواد وثائقية حصلوا عليها من بلدانهم، من أجل إعادة سردها باعتبارها أحداثًا مرتبطة بوقتنا الحاضر. وكجزء من المعرض الذي شارك فيها عدد من الفنانين اليونيانيين وآخرون من مناطق جغرافية متعددة، فإن المشروع الأرشيفي "الجسر" (2013-2015) لِ فانجيليس فلاهوس، يعيد خلق الرحلة الخيالية بين مدينة فولوس تيساليان الثيسالية، الواقعة على بعد حوالي 300 كيلومتر شمال شرق أثينا، وطرطوس، ثاني أكبر مدينة ساحلية في سوريا وذلك من خلال الصور الموجودة في أرشيفات الصحف، على الإنترنت أو في ألبومات الصور الخاصة.

فانجليس فلاهوس ، الجسر ، 2015 ، 106 صور على رف معلق على الحائط ، بإذن من الفنان ، موموس ثيسالونيكي

يشير مشروع "الجسر" إلى اتفاقية تجارية بين اليونان وسوريا في السبعينيات والثمانينيات، نصّت على إنشاء خدمة عبّارات مباشرة بين الميناءين، وعلى ربط أوروبا بالعالم العربي، واعُتبرت مسارًا أساسيًا لنقل البضائع التجارية إلى المنطقة. الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في هذه الاتفاقية هو أن دولة اليونان التي تُمثّل موطن أحد أكبر وأقدم الموانئ في أوروبا، كانت اتصالاتها البحرية بشرق البحر الأبيض المتوسط قليلةٌ جداً في العصر الحديث. فقد أعاق النزاع الجاري بين إيجه وتركيا بشكل دائم اليونان عن لعب دورها كشريك تجاري مع المنطقة المحيطة بها، وهو أمرٌ متناقض بالنسبة لبلد بُنيت ثروته على إمبراطوريات الشحن.

تمّ تشغيل خط العبّارة الذي تتبّعه فلاهوس في مشروعه بين عامي 1977 و 1988 ولكنه توقف في النهاية بسبب الوضع غير المستقر في الشرق الأوسط مما قضى على فرصة أن يعود اليونان لاعباً إقليمياً. كان الدافع الاقتصادي الأكبر للمشروع هو تقليل تكاليف الشركات التي تنقل المنتجات إلى الشرق الأوسط عبر معدات الحفر، بالطريقة نفسها التي هدفت بها شركة إيجا للمرات البحرية إلى توفير طريق سهل للحفارات من إزمير لدخول أوروبا.

سادت الشرق الأوسط في هذه الحقبة الاضطرابات، فقد استمرت الحرب الأهلية في لبنان، الذي احتلته في ذلك العهد كل من سوريا وإسرائيل، على جبهات مختلفة. من ناحية أخرى استمرت الحرب العراقية الإيرانية خلال عقد كامل تقريباً. في البداية كان الأردن داعمًا للاحتلال السوري للبنان، لكن فيما بعد قُطعت العلاقات بين البلدين بعد أن دعم الأردن مبادرة السلام التي أطلقها الرئيس المصري السادات مع إسرائيل، وبدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى تلوح في الأفق.

في المقابل، لم تكن اليونان في السبعينيات من القرن الماضي البلد الأمثل للاستقرار الأوروبي: فقد شهدت البلاد إلغاء النظام الملكي، ونهاية نظام الكولونيلات، والغزو التركي لقبرص، وإنشاء الجمهورية اليونانية الثالثة. في الوقت نفسه، خلال العقد الأسبق، أصبحت اليونان أيضًا وجهة شهيرة للأثرياء الذين قصدوا أماكن راقية مثل ميكونوس وسانتوريني، بعيدًا عن متاعب العاصمة، إذ تم الإعلان عن تلك الوجهات في كتيبات ملونة وعلى صفحات السفر الخاصة بـ الصحف العالمية. كذلك أظهر فيديو أرشيفي، أطلقته هيئة الإذاعة اليونانية عام 1977 مُعلناً ولادة عبّارة فالستر التي انطلق سيرها على خط فولوس-طرطوس، شاحنات البضائع وهي تُحمَّل على متن السفينة، ثم تبدأ الموسيقى الاحتفالية، جنبًا إلى جنب مع الأكروبوليس، ترافقها إطلالات ساحرة على وسط أثينا - خالية من المظاهرات ومن المعالم السياحية.

وسط هذا الشعور بالارتباك وعدم التطابق التاريخي، تُظهر الصور التي تم العثور عليها خلال العمل على مشروع "الجسر" الحياة اليومية على متن العبارة. إنها صورٌ لهواة التقطها سائقو الشاحنات وطاقم السفينة لحمامات الشمس في البحر المفتوح، وللآفاق والمناظر البحرية وصور الظل في الأماكن التي كانت تمرّ بها العبّارة. تمّ وضع هذه الصور العادية بجانب بعضها البعض، فوق رفٍّ طويل جدًا مثبت على الحائط، متّبعةً بشكل غير محكم المسار الأصلي للعبّارة من فولوس إلى طرطوس.

ولكن، يبدو كما لو أن هذه الرواية الزمنية، التي أبدعها الفنان بعناية، تحتوي على إسقاطاتٍ على الحاضر الذي على وشك الذوبان أو الذي يخضع بالفعل للانحلال والتلاشي: فنرى صورة أيقونية بالأبيض والأسود من بين 102 صورة فوتوغرافية في مشروع "الجسر"، لسفينة هيلاس، المملوكة من قبل شركة هيلاس سوريا إكسبريس التي كانت موضع جدل تاريخي بين البحارة الذين قاموا بالرحلة على متن سفينة فالستر. منذ اثني عشر عامًا، في منتدى يوناني على الإنترنت، بدأ نقاش حول مقال نُشر في إحدى الصحف المقدونية في عام 1979 (لم أتمكن من إيجاد المقال المعني)، الذي يشير إلى خط فولوس-طرطوس الشهير وعبّارة فالستر التي يمكن أن تحمل 70 شاحنة و60 سيارة و100 راكب، والتي كانت تغادر كل 4 أيام في رحلة تستغرق حوالي 40 ساعة. ولكن على الرغم من الإشارة إلى مركِب هيلاس في نهاية المقال على ما يبدو، لم يتعرف عليها أحد. فهل كانت شبحًا مثل السفينة المجهولة من بحر إيجة؟

تكشّف مع الزمن حساب معقد لسفن تابعة لشركات مختلفة، تغيّرت أسماءها ومالكيها - وهو أمر يحدث بشكل متكرر في التجارة، مما يترك احتمال وجود لإحدى العبّارتين: ستينا نورديكا وستينا رانر. قد تكون السفن الأخرى، أرغو أو ألفا انتىبريز قد سافرت على شكل عبارات تحمل اسم "سوريا"، التابعة لشركة خط هيلاس سوريا إكسبريس. لكن ما يلفت الانتباه هنا ليس الأسماء والمواثيق المختلفة، ولكن حقيقة أن هذه العبّارات كانت مؤجرة بشكل متقطع لشركة خط هيلاس سوريا إكسبريس ثم بين مستأجرين آخرين لها حول العالم. ضمّت العبّارات الأوروبية تاونسند توريسين عبّارة هيلاس في عام 1986 وأصبح اسمها: "عبّارة دوريك" واختفى خط فولوس-طرطوس بعد ذلك بوقت قصير. وهكذا يستمر المسار الغامض للسفن في إظهار الجغرافيا السياسية غير المستقرة في تلك الفترة.

يرسم سائق شاحنة بريطاني بشكلٍ رائعٍ صورة حية للتمزق الجيوسياسي في ثمانينيات القرن الماضي. حيث أصبح نقل حمولة بسيطة بين دمشق وعمان والدوحة مغامرة تأخذ ثلاثة أشهر: "حدث ذلك عندما كنت أستخدم عبّارة فولوس-طرطوس بقدر ما تسنح لي الفرصة كي أتجنب المرور بتركيا، لكن في أحد الأيام وقفت السياسة عائقاً في طريقي قبل وصولي إلى فولوس. سوريا لم تسمح لي بتفريغ حمولتي في دمشق مادام هناك حمولة أردنية على متن المركب! حدث شيء ما بين البلدان بعد مغادرتي لندن". بعد أن أدركَ أنه لن يتمكن من إتمام المهمة، وأن العودة إلى المملكة المتحدة لن تكون ممكنة في تلك المرحلة، قرر التوجّه إلى أثينا.

في العاصمة اليونانية، أمّن له وسيط عبّارة إلى قبرص، ومن هناك، عبّارة أخرى إلى لبنان. من لبنان انطلقت شاحنة لبنانية بحمولةٍ إلى سوريا، وبعد ذلك بدا أنه سيتمكن من الاستمرار في طريقه إلى الأردن مروراً عبر سوريا (الغريب أن ذلك كان ممكناً بشرط عدم تفريغ الحمولة في دمشق). كانت المشكلة في الحصول على تأشيرة لبنانية، والتي لسبب ما لم يتمكن من الحصول عليها في اليونان، ولكن ربما كان ذلك ممكناً في قبرص. صعد سائق الشاحنة على متن عبارة متجهة إلى لارنكا، على الرغم من أن وجهته كانت في الواقع إلى ليماسول، وعندما وصل قبرص، لم يُسمح له بالاستمرار. ثم كشفت سيارة أجرة متجهة إلى السفارة اللبنانية في ليفكوسا عن خطوط التقسيم بين الشمال والجنوب في قبرص، والتي من شأنها أن تؤجل الرحلة لمدة ثلاثة أيام أخرى. في العبّارة التالية، على بعد 40 كيلومترًا من ساحل بيروت، بدا أن هناك حريقًا كبيرًا قد نشب في مكان ما، ولكن الذي اتضح فور وصول السائق أن الحريق منتشرٌ على معظم الأرصفة. في الواقع، لم يكن مجرد حريق. كان حرباً أهلية.

فانجليس فلاهوس ، الجسر ، 2015 ، 106 صور على رف معلق على الحائط ، بإذن من الفنان

على خلفية هذه الوقائع التاريخية التي تقول الكثير عن القطيعة وتقطع السبل والانقطاعات المتكررة، يمنحنا مشروع "الجسر" إمكانية الوصول إلى زمن الانتقال والوصل، أو حالة وجود شيء ما ولكنه غير واضح تمامًا. في هذا التصميم شبه الخطي، الذي يتجلى بسلاسة، في اتجاه واحد، ومن خلال الفجوات التأريخية، أصبحنا على دراية بالعلاقة بين وثائق الماضي وتكرار المعاني في الأرشيف المعاصر- وبأننا غير قادرين على اعتماد اتجاهٍ واحد ولا استدامة للوقت. لم يكن القصد من أي من الوثائق المدرجة في رحلة فلاهوس الخيالية أن تكون بمثابة لبِنات هدفها بناء استمرارية تاريخية ولم يتم العمل عليها بشكل آلي، ولكن الهدف من ترتيبها المُرَكّب كان القيام بتأريخ انقطاع ما في الوقت. ومع ذلك، فإن الانقطاع لا يعني التوقف؛ فيصبح الوقت الممزق منتشرًا على حواف الحاضر غير المكتملة.

قبل بضعة أشهر فقط من معرض اسطنبول، كان من الممكن إعادة بناء مسار الرحلة غير الرسمي للركاب المبتهجين على متن هيلاس في عام 1970 على وجه التقريب، وبناء إطارٍ تلو الآخر في الاتجاه المعاكس، من تشيم إلى لافريون، على متن سفينة أشبه بمركب أشباح لم يطلق عليها اسم، وشيدت بشكل فوتوغرافي من صور سفن مختلفة أخرى - وهي استراتيجية ليست غير مألوفة لدى فلاهوس. كيف ومتى تصبح وثائق الحاضر العادية تاريخًا حقيقيًا؟ تزامن وجود رفوف مثبتة طويلة للصور في إسطنبول تقريبًا مع الاختفاء المفاجئ لشركة ممرات بحر إيجه. لكن الحاضر المعاصر، المفكّك تمامًا، على الرغم من كثرة البيانات والصور، أصبح مقاومًا جدًا للأرشيف. من المحتمل ألا يتم العثور على الصور العديدة التي تم التقاطها على متن سفينة الأشباح في صيف عام 2019 في الصحف أو ألبومات الصور، ربما اختفوا في صفحات فيس بوك ميتة أو حسابات أنستغرام مجهولة.

الصورة هنا هي فقط وثيقة تم فصلها عن البيئة السردية الخاصة بها، فأصبحت جزءًا صامتًا، بنفس الطريقة التي تفقد بها قطعة أثرية اقتُلعت بالقوة من موقع أثري، مكانها في شبكات معقدة من المعاني والأصول. انطلاقاً من تلك النقطة، دائمًا ما تكون الروايات التي تعيد بناء أحداث الماضي معرّضة لخطر التحول إلى مادة لزجة يصبح فيها الحاضر والماضي أحداثًا مؤقتة ومنعزلة في علاقة تبادلية وسببية لا تترك مساحة للتغيير التاريخي. سأستعير هنا فكرة من كتابات والتر سيدل عن "الجسر": ماذا لو تمكنت أشكال مختلفة من التمزق أو الفشل التاريخيين من إعادة تنشيط بعضها البعض عن طريق وسائل المواجهة في زمننا الحاضر؟

تحت سطح المياه النظيفة لبحر إيجه، تخيل جمال يوم صيفي صافٍ تغادر فيه بالعبارة من تشيمه، حيث تكمن إخفاقات تاريخية لامتناهية ومخفيّة: البحر الأبيض المتوسط، أكبر مقبرة على وجه الأرض للمهاجرين، نقص الدعم الغربي لخط أنابيب إيست ميد، الخلاف الطويل مع تركيا حول المنطقة الاقتصادية الخاصة باليونان، مخيم موريا للاجئين سيئ السمعة بالقرب من ليسبوس. لكن كما نعلم الآن، بإلقاء نظرة على الماضي على الأحداث السياسية الكامنة وراء "الجسر" والتي تغيب بشكل واضح عن الصور، فإن هذه الإخفاقات أو التمزقات تبقى كامنة، وربّما تستيقظ مرة أخرى في أي وقت، وتبتلع الواقع كله.

في الوقت الذي سافرت فيه الصورة الأرشيفية المراوغة لـهيلاس، جنبًا إلى جنب مع بقية صور المشروع إلى متحف الفن المعاصر في سالونيك لإقامة النسخة الثانية من معرض فيتالي في ربيع عام2021، يدلّ إدراك العلاقة بين الأرشيف المادي لخط هيلاس سوريا إكسبريس، وأرشيف شركة ممرات بحر إيجه غير الموجودة، ولكن من المحتمل أن تكون حقيقيّة، على فشل تاريخي آخر تحول بشكل غير متوقع إلى حالة عالمية. بعد فترة وجيزة من صيف عام 2019 ومعرض إسطنبول، أغلقت جائحة كوفيد 19 موانئ اليونان، واختفت جميع الروابط المادية التي تربط اليونان بتركيا، ولكن هذه المرة ليس فقط عن طريق البحر..

في مشروع "الجسر"، يقدم فانجيليس فلاهوس سرداً مجزّأً لهذه السلسلة المتصلة والمسامية بين الماضي والحاضر. لا يروي بالدقة التأريخية للأرشيف العمودي، ولا بغرور راوٍ يحاول التنقيب عن طبقات مخفيّة في نَص العالم، بل يبقى على سطح الحدث، دائمًا بين الحقائق المرئية، ولكن في غياب حالة السرد الرئيسي. لا تكون إعادة بناء الماضي بالضرورة من منظور الحاضر، وإنما تتم كما لو كان الماضي هو الحاضر – وهكذا لا توجد أي طريقة أمامنا لمعرفة أيّ من الوثائق أصبحت تاريخًا أم لا.

تجعلنا المشاريع الجيوسياسية المتأخرة أو المتوقفة بشكل دائم في اليونان بصفتها دولة مستعمرة مشفّرة (خفية)، على دراية بالتمزق التاريخي، ولكن ليس كمصادفة، بل كهيكل للسلطة. لليونان هويات عديدة: الديمقراطية الغربية، الدولة الأوروبية، الوريث البديل للحضارة القديمة، المديون المزمن، شرطي الحدود، جنة الإجازة، ساحة المعركة الأيديولوجية، "الشرق الأوسط". تمّ سحب هذه الهويات أو نقلها عبر المنظور الغربي في عملية تشبه المسوحات الاستعمارية لعلماء الآثار الكلاسيكيين في البلاد منذ القرن التاسع عشر. إذ يسلط مشروع فلاهوس الأسبق، "علماء الآثار الأجانب: من الوقوف إلى الوضع المنحني" (2012)، الضوء على حالة التدقيق المستمر في البلاد من قبل الخبراء الغربيين. فقد اكتشفت 53 صورة لعلماء آثار أجانب عملوا في هذا المجال في اليونان منذ عام 1950 في أرشيفات المدارس الأجنبية لعلم الآثار ومقرها أثينا. تلفت هذه الصور الانتباه إلى المهمة الأثرية: قياس وفحص ومسح أشياء الدراسة. في تدفق الصور التي تعكس الوضعيات المادية، من الوقوف منتصبًا، إلى الانحناء إلى الوقوف مرة أخرى، يتشكل الأرشيف المجزأ مرة أخرى من مصادر مختلفة ومبسّطة باعتبارها تسلسلًا خياليًا (منفصلًا) يتعامل مع وثائق الماضي على أنها عقدة في الظروف الاجتماعية والسياسية.

Vangelis Vlahos ، صور بحثية من مشروع The Bridge ، 2015

تخلق العلاقة بين علم الآثار والتصوير الفوتوغرافي هنا سياقًا موسّعاً لـمشروع "الجسر" حيث يبتكر علماء الآثار وقتًا محايدًا من خلال التصوير الفوتوغرافي عن طريق تحرير الطوابع الزمنية والأشياء المعاصرة من صور للحفريات والتحف، من أجل خلق وهم حديث لماض بعيد لم يمسه أحد (رغم أن التنقيب عن هذه الأشياء تم بعنف من أجل تمثيلها). في معالجته للوثيقة الأرشيفية، يقلب فانجيلس فلاهوس عملية التمثيل المحايد هذه رأسًا على عقب، ويعمل بالكامل على المواد التي تم العثور عليها - حيث يكون التحرير مستحيلًا، ليس عن طريق إزالة آثار الصراع والعنف في السرد، ولكن من خلال مقاومة إغراء إنتاج الخطية الوثائقية. في هذا الانقطاع المفتوح في الزمن، تظل آثار الماضي، مهما كانت غائبة، كامنة، وجاهزة للعودة في وقت قصير. ليس التركيز والتشديد في الترتيب المكاني لهذه الصور هو إعادة تمثيل لأحداث من الماضي، بل هو بالأحرى تجسيد لحالة الوقت غير المكتمل: فالحاضر هو نفسه، آنذاك والآن، لكنه يستمر بشكل متقطع، وينتشر في جميع الاتجاهات.


آري أمايا أكرمانس كاتب مستقل وناقد فني مقيم في اسطنبول ، تركز أبحاثه على الثقافة البصرية في الشرق الأوسط ، وسياسة الذاكرة ، والهندسة المعمارية.

Previous
Previous

Perambulation 02

Next
Next

مقال عن معرض "النافورة الخاملة" لِ فيكي بيركلوس